طريقة حفظ القران الكريم عند الشناقطة :الإهداء
طريقة حفظ القران الكريم عند الشناقطة

العقاب عند الشناقطة

ثالثا :  العقاب عند الشناقطة :

إن نظرة على غالب المحاضر الشنقيطية يتبين منها أن للشيخ كامل الحرية في أن يعاقب  بالضرب أو الحبس ، أو غيرهما من يشاء ، دون أي تدخل من الأهل والأقارب  ولو أدى ذلك إلى كسر عضو ، ونحوه ([1]) ؛ بل ولو أدى – كما في حالات نادرة – إلى موت الطالب ؛ بسبب الهروب من المحضرة ، والموت عطشا في الفيافي ، والصحارى الواسعة ([2])

ولكن الشيخ لا يبدأ بالضرب – في أغلب الأحيان – بل إنه يعاتب برفق بأن يعرض عن التلميذ ، ولا يلتفت إليه ، حتى ينتبه التلميذ نفسه لخطئه ، وقد ينبه على طريقة التعميم ، فقد حكي عن محمذن فال بن أحمد فال التندغي ([3]) أنه كان إذا أخطأ أحد تلامذته سواء من قبيلته ، أو من غيرهم ؛ فإنه يقول للطلاب جميعا :

وقول ما لا ينبغي ، لا ينبغي     لتندغ ، ولا لغير تندغ

هذا إذا كان خطأ الطالب قولا ، أما إذا كان جرمه فعلا ، فإنه يقول لهم:

وفعل ما لا ينبغي ، لا ينبغي    لتندغ ، ولا لغير تندغ ([4])

ولا شك أن التعريض وعدم تعيين المذنب أسلوب تربوي نبوي فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما بال أقوام يفعلون كذا أو يقولون كذا. ([5])

ولكن التلميذ إذا لم يرتدع بالكلام ، والإشارة ([6]) فإن الشيخ يلجأ إلى الضرب لا رغبة فيه ، ولكن حفاظا على المصلحة العامة للطالب نفسه ، وللمحضرة أيضا.

ومع ما قد يظهر للمرء من خطورة منح مثل هذه الصلاحيات للشيخ ، إلا أن الحقيقة أن الطبيعة الصحراوية لهذا البلد ، وانعكاسها على سلوكيات أهله من حيث حرارة الطبع ، وصعوبة المراس ؛ يفرض هذا السلوك التربوي الذي قد يراه البعض خاطئا ، ويعتبره آخرون شائنا …

إن نوعية العقاب – في نظري – يجب أن تراعى فيها طبيعة السكان ، وظروفهم البيئية ، وسلوكياتهم الاجتماعية ، أما أن نأخذ نظريات تربوية تمت تجربتها في صحراء “سبيريا” ، ونطبقها بحذافيرها على سكان الصحراء الكبرى ، أو الجزيرة العربية ؛ دون نظر في الخصوصيات الجغرافية ، والثقافية لتلك البلاد ، فإن ذلك لن يعطي النتائج المرجوة منه.

ولعل هذا من أهم أسباب التعثر التربوي الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم ، ذلك أن انبهار كثير منا بالتقدم التقني للغرب ؛ جعله يأخذ كل ما لفظته الحضارة الغربية – إن جازت تلك التسمية – ثم يطبقه كما هو على مجتمعه الذي يختلف تمام الاختلاف عن المجتمع الغربي ؛ فإذا كانت النظريات التربوية المبنية على دراسات نفسية ، واجتماعية للمجتمع الفرنسي – مثلا- تصلح للمجتمع السويسري ؛ لاشتراكه مع الفرنسيين في كثير من الخصوصيات ؛ فإن ذلك لا يعني بالضرورة صلاحية تلك النظريات للمجتمع السوداني ، أو الشنقيطي ، نتيجة للاختلاف التام مع تلك المجتمعات التي كانت ميدان تجربة لتلك النظريات…

وهذا ما وعاه الشناقطة ؛ فأوجدوا نظرياتهم الخاصة بهم ، والتي تناسب الطبيعة الجغرافية ، والسكانية لهم ، فضلا عن مناسبتها للمواد المقروءة عندهم ، والتي تعتمد – في غالبها – على الحفظ ..

وعملية الحفظ عملية معقدة ، ومتعبة ، يملها المرء عند المحاولة مرتين ، أو ثلاثا ؛ فاستلزم ذلك أن تكون للشيخ الذي أسندت له مهمة تحفيظ الأجيال ، وغرس هذه العلوم في عقولهم ، صلاحية العقاب ، حتى يؤدي مهمته على أكمل وجه .. ولذا فقد منح الشناقطة الشيخ كامل الحرية في العقاب ، فنتج عن ذلك سيل من حفاظ كتاب الله تعالى ، وبحر تتلاطم أمواجه من العلماء في كل الفنون المتوفرة عندهم ، مع ضعف الإمكانات المتاحة لهم ؛ سواء من الناحية المادية ، أو حتى من ناحية توفر المراجع ، والكتب ، وغير ذلك ..

إن كثيرا من البلاد الإسلامية اليوم تصرف ملايين الدولارات على المدرسين ، والطلاب من أجل حفظ القرآن الكريم ، ومع ذلك تجد فيهم أعداد الحفاظ أقل من القليل ، ومستوى إتقان الحفظ عندهم ضعيفا كذلك ، فما السبب يا ترى ؟

إن نظرة عاجلة ، ودراسة مقارنة تبين أن من أهم أسباب تناقص الحفاظ في تلك البلاد مع ما يصرف من أجل زيادة أعدادهم ، هو في عدم منح القراء ، والمشايخ الصلاحيات الضرورية لتوصيل المادة العلمية للطلاب ، فإذا كان الطالب ينظر إلى الشيخ نظرة دونية بسبب مستواه المادي ، أو لاعتبارات أخرى ، أيا كانت ، فكيف يستفيد منه ، ويحفظ على يديه !؟

لقد أرسل الله الأنبياء إلى مختلف الأمم ؛ ليعلموهم الخير ، فهم أول المعلمين ، ومنحهم من الصلاحيات ما يحتاج له كل معلم ، فكان يبعثهم من بيوتات حسب ونسب ، وأوجب على أممهم محبتهم ، وتعظيمهم ، وتوقيرهم ؛ لأن ذلك كله من ضروريات توصيل رسالة العلم التي كلفوا بها ..

ولنا فيهم قدوة حسنة ، فلا بد لطالب العلم أن يحب شيخه ، ويعظمه ويتأدب معه ، لا من أجل ذاته ، بل من أجل العلم الذي أعطاه الله ، والذي نحن بحاجة إليه ، حتى لو كانت به حاجة مادية من فقر ونحوه ، فمتى تساوى فقر المال ، وفقر العلم ؟ ومتى تساوى غنى المال وغنى العلم؟

فالحاصل أن الشناقطة رخصوا للشيخ بالعقاب بما يراه مناسبا ، ويعاقب الطفل والمراهق على حد سواء ، وليس عند التلاميذ إلا تحسين سلوكهم ، والصبر على ضرب الشيخ ، أو تعنيفه ، ولسان حال والديهم يقول لهم:

اصبر لدائك إن جفوت طبيبه    واصبر لجهلك إن جفوت معلما


ج – وجوب طاعة الشيخ :

إن طاعة الشيخ – عند الشناقطة – لا تقف عند حد ، ما لم يأمر بمعصية ؛ وأسلوب العقاب الذي تقدم يجعل الطالب مطيعا للشيخ رغم أنفه ، فضلا عما يلقى على التلميذ من نصائح تؤكد على أهمية طاعة الشيخ ، وضرورتها ، وكلام السلف في ذلك ؛ فيصبح الطالب أمام الشيخ وكأنه آلة ، ولهذا من الفوائد ما فيه ، وهو من أهم ما ركز عليه السلف الصالح عند كلامهم على حقوق الشيخ ..

قال الغزالي : ( … ومهما أشار عليه شيخه بطريقة في التعليم ؛ فليقلده ، وليدع رأيه ؛ فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه ، وقد نبه تعالى على ذلك في قصة موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام([7]) بقوله : ” إنك لن تستطيع معي صبرا .. ” هذا مع علو قدر موسى الكليم في الرسالة والعلم ، حتى شرط عليه السكوت فقال : ” فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا “).([8])

([1]) لا يقع هذا إلا في النادر جدا ، ولكن المقصود أنه حتى لو وقع ، فإن الشيخ آمن من ردة فعل الأهل ، لأن الكلام في مثل هذا يعتبر عيبا عند المجتمع ؛ فالشيخ لم يكن ليقصد فعل ذلك قطعا – وهو الذي قدمنا مواصفاته التي منها الحلم ، وحسن الخلق – وإنما كان هدفه هو التأديب ، والمصلحة ، ولا أحد يستطيع أن يمنع القدر …

([2]) قد يسير المرء مئات الكيلومترات في تلك الصحاري دون أن يجد بئرا يشرب منها ، فضلا عن ماء جار ونحوه ، مما يسبب موت كثير من المسافرين بسبب العطش ، ولا زالت هذه المشكلة مطروحة حتى اليوم ..

([3]) نسبة إلى قبيلة “تندغ” وهي من قبائل الزوايا المعروفة بالاهتمام بالعلم ، وقد برز منها علماء أجلاء .

([4]) المقصود من البيتين : أن قول وفعل ما لا ينبغي قوله أو فعله لا يصلح ولا ينبغي لأي أحد كائنا من كان ، سواء كان من أفراد قبيلة العالم ، أو من قبيلة أخرى ، وهو نوع من التعميم السائغ نوعا ما .

([5]) كان صلى الله عليه وسلم يكثر توجيه الناس بهذه الطريقة ، ولا يكاد يصرح بالفاعل ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له ، وإن اشترط مائة مرة ) انظر : “صحيح البخاري” ج 1 ص 174 وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ؟ فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم ) انظر : “صحيح البخاري” ج 1 ص 261 وعن عائشة رضي الله تعالى عنها و أرضاها قالت : صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ؛ فرخص فيه ؛ فتنزه عنه قوم ؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فخطب ، فحمد الله ، ثم قال : ( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فو الله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية ) انظر : “صحيح البخاري” ج 5 ص 2263 وعن أنس بن مالك أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وقال : ( ما بال أقوام قالوا : كذا وكذا ، لكني أصلي ، وأنام ، وأصوم ، وأفطر وأتزوج النساء ؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني ) انظر : “صحيح مسلم” ج 2 ص 1020 إلى غير ذلك من الأحاديث في مثل هذا .

([6]) وعند الشناقطة مثل مشهور في هذا المجال وهو : “الحاذق بقمز والفاسد بدبز” ومعناه أن الحاذق العاقل تكفيه الإشارة ، ويرتدع بها ، أما الفاسد ، فلا بد له من الضرب الشديد ، حتى يرجع عن الخلق الذميم .

([7]) لقد ركز كثير من المتصوفة على هذه القصة ، وفهموها فهما خاطئا ، وحاولوا من خلالها أن يبرهنوا على كثير من ترهاتهم التي تخالف نص القرآن الكريم ؛ فضلا عن مخالفتها لأسس عقيدة المسلمين ؛ فمن ذلك تصريح بعضهم بأن الخضر أعلم من موسى ، أو أنه أفضل منه ، وأنه حي إلى الآن ، وكذا استدلال بعضهم بأن أولياءهم يمكن أن يكون لهم شرع خاص بهم ؛ لأنهم لصفاء قلوبهم ومشاهدتها للحقائق ، صاروا في غنى عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما كان الخضر في غنى عن شريعة موسى عليه الصلاة والسلام ، وكل هذه الأباطيل ردها العلماء ، وبينوا أن أدلتها أوهى من بيت العنكبوت ، ونصوا على أن اعتقاد بعضها كفر أكبر ، يقتل صاحبه ولا يستتاب عند بعض العلماء ، وبعضهم يستتاب عنده .والله أعلم.

([8]) انظر : “تذكرة السامع” ص 137

شاهد أيضاً

طريقة حفظ القران الكريم عند الشناقطة :الإهداء

المبحث الأول : تعريفات مهمة

المبحث الأول : تعريفات مهمة : المبحث الأول : تعريفات مهمة المطلب الأول : تعريف الحفظ : الحفظ : ضبط الصور المدركة ، وقيل هو تأكد المعقول واستحكامه في العق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *